عجيب هذا العالم الصغير الذي نحاول دائماً أن نصل فيه إلى القمة وننسى إن هناك ما هو أبعد
منها بكثير وهو من خلقنا فتدفعنا نزواتنا وقوتنا إلى طلب المزيد وننسى في النهاية إننا بشر.
دائماً كنت أتطلع ببصري إلى قوى لا أملكها أو يملكها غيري وكانت البداية منذ نعومة أظافري
حيث كنت أقضي طفولتي بين ربوع ريف مصر الخلاب ولكن لم أكن كغيري من الأطفال...كانت
تستهويني الخوارق أو ما أطلق عليه شباب القرية الجرأة والشجاعة وكانت تعني لديهم أفعال
غريبة تكاد تقشعر لها الأبدان وكانوا يعتقدون إنها الطريقة الوحيدة لإثبات رجولتهم وكان غالبا
التنافس على المرور بالمقابر ليلاً أو قضاء بعض الوقت هناك وكنت كغيري من الصبية نقف
مشدوهين عندما يأتي أحد المتبارين ويتعانق الجميع وقد أشاروا له بالبنان فهذه ليست أول
مرة يقضيها فلان بين المقابر ووسط الأموات وكأن الموتى ينقصهم من يستكثر عليهم سباتهم
الأبدي....وكأي طفل كنت مشدود لما يفعلونه بل لقد حضرت أحد المرات بعض الشباب وهم
يرتلون بعض الترانيم وهم يرفعون جسد شاب بأطراف أصابعهم وسط صياح الموجودين...
شخص واحد فقط كان يرمقهم بنظرة غضب وهو الشيخ ( حاتم الأزهري) الذي حاول أن يقاومهم
بشتى الطرق تارة بالقرأن وأخرى بالمنطق والبرهان والدلائل ولكن كان نصيبه الأكبر من
السخرية والإستهزاء....وكان يتزعم هؤلاء الشباب (عامر ) وهو الرأس المدبر ويعاونه
صديقاه (فتحي ) و (سالم ) وإجتمعوا وقرروا الإنتقام من الشيخ حاتم الذي أخذ يؤلب أهل القرية
ضدهم وحتى أهلهم صاروا يشعروا بالخزي والعار لأفعالهم الشيطانية....قرر الثلاثة الإنتقام من
الشيخ حاتم وعزموا على ذلك وتوجه إليه ليلا عامر وفتحي وهم يرتعدان خوفا...
عامر (وهو يلهث) : إلحقنا يا شيخ حاتم....سالم دخل الترب (المقابر ) وما رجعش تاني
الشيخ حاتم وهو يحوقل: لا حول ولا قوة الا بالله ...تاني يا اولادي مش قلنا المواضيع دي نبطلها
انتم الشيطان حيفضل راكبكم لحد إمتى...حرام عليكم...إعقلوا بقى...حد يخش الترب نص الليل.
فتحي : والله أخر مرة يا مولانا ولو حصلت تاني اعمل فينا اللي انت عاوزه
الشيخ حاتم : طيب وإيه المطلوب مني دلوقتي ...أدعيلكم
عامر وهو يمثل الرعب : لا يا شيخنا تيجي معانا نجيبه ...ده في الجبانة الشرقية والطريق هناك
واعر وعاوزين بركتك معانا ودي أخر مرة الشيطان يلعب بدماغنا ونعمل كده تاني..الله يبارك
لك...إحنا قلقانين عليه قوي.
الشيخ حاتم ( في ضجر )...ثواني أجيب الشال على رقبتي وأجي معاكم.
ينصرف الجميع في إتجاه الجبانة الشرقية وقد أبى القمر أن يشاركهم مؤامرتهم فكانت الأقدام
لا تميز ما تطأ في بهيم الليل...كان أزيز الرياح ونسمات الهواء الباردة يضفي جو من الرعب
أضاف لسكون الموتى رعب وذعر من المجهول شعر به الشيخ حاتم للوهلة الأولى ولكن لم
يكن هناك بد من التقدم... أفاق الشيخ حاتم من سكونه على صوت عامر وهو يصيح ..
عامر : هو دخل من هنا ويشير بإصبعه إلى درب ضيق يسلكه رفيقاه وفي نهايته كانت حفرة
كبيرة...وما أن هم الشيخ حاتم بالنظر...حتى حملاه عامر وفتحي وألقياه في الحفرة وسط صراخ
العجوز : حرام عليكم ليه كده يا ولاد...ده جزائي ...طلعوني حرام عليكم
إختلطت إستغاثة الشيخ بضحكات عامر وفتحي وهم يشيران اليه ساخرين : بكره ان شاء الله
لما يطلعوك ويعرفوا انك برضه بتروح الترب بالليل حيضحكوا عليك ويقولوا عليك مجنون زي
ما قالوا علينا ههههههههههههههههه....وتنطلق الضحكات الشيطانية وهم يغادرون المكان
وقد تناهت لاسماعهم صرخات وبكاء الشيخ العجوز وقد أخذت تتلاشى تدريجياً....وعلى بعد
غير قليل إلتقوا بصديقهم الثالث سالم وهم يعانقونه فرحين بتنفيذ خطتهم والانتقام من الشيخ
حاتم ويتوجهون لمنازلهم على أمل اللقاء وتذوق حلاوة الفوز على الشيخ حاتم الذي سيصبح
إضحوكة القرية.
تستيقظ القرية في اليوم التالي على عويل وصراخ ويستيقظ معهم الاصدقاء الثلاثة مستطلعين
الأمر....لقد عثرت إمرأة ترعى الغنم على جثة الشيخ حاتم في إحدى الحفر بالجبانة الشرقية
وهنا يسقط في يد الاصدقاء الثلاثة...ماذا حدث ؟؟؟هل تحولت المزحة إلى جريمة قتل ؟؟؟
هل دفعهم الشيطان الى الهاوية وتغلب عليهم في النهاية الشيخ حاتم ؟؟؟؟ تساؤلات كثيرة
لمعت في اذهانهم بسرعة البرق وفي النهاية أقنعوا انفسهم بأنهم غير مسئولين ولم يرهم أحد
أقيم سرادق ضخم للعزاء ووقف اهل الشيخ حاتم يتلقون العزاء وكعادة اهل القرية أخذ كل
منهم يعدد في مأثر المرحوم بإذن الله وفي النهاية توجه الجميع إلى منازلهم....وفي منزل
عامر إجتمع معه صديقاه فتحي وسالم وقد تعالت ضحكاتهم
عامر : ياه الحمد لله عدت على خير ودكتور الصحة قال انه مات بالسكتة...كان زمانا في
في السجن دلوقتي.
فتحي : يا عم افتكر لنا حاجة كويسة أنا مش مصدق نفسي ان العملية عدت بسهولة كده
سالم : يا ريت يا عامر تعمل لنا شوية شاي بدل قعدتك الخايبة دي
ينهض عامر ليشعل الموقد ويضع البراد على النار وينظر في الماء الموجود بداخله ويطلق
صرخة مدوية...يهب اليه رفيقاه : مالك يا عامر ...فيه إيه؟
عامر في رعب : الشيخ حاتم انا شفت وشه (وجهه) على الميه داخل البراد.
فتحي : هو ده الهبل بعينه....يا عم وحد الله ولا نمشي احسن انت اتجننت رسمي.
يهم فتحي وسالم بالخروج من الباب ولكن الباب يظل مغلقاً ...يحاول الصديقان دفعه بشدة ولكن
محاولتهما تبوء بالفشل ينتبها على صوت صرخة عالية...يلتفتا بشدة ...كانت نيران الموقد
تمسك بجلباب عامر وتنتشر بسرعة في الفراش والمقاعد المتهالكة القديمة يحاولان انقاذ
عامر ولكن النيران تأتي عليه بالكامل وتمتد بسرعة رهيبة نحوهما ويعلو صراخهم حتى
يتلاشى.
بعد قليل تأتي عربات الإطفاء وتخمد النيران وترفع عربة الإسعاف ثلاث جثث وقد تلاشت
معالمهم من أثر النيران.
يقف أحد رجال الشرطة وهو يؤدي التحية العسكرية لأحد الضباط : تمام يا افندم
الضابط : المكان كله اتحرق ...إتأكدتم إن ما فيش جثث تانية ؟
رجل الشرطة : لا حضرتك المكان كله متفحم ولكن الحاجة العجيبة إننا لقينا الشال ده سليم
والنار ما حرقتهوش
ينظر الضابط بتعجب للشال ويلقيه جانباً ليلتقطه أحد القرويين وهو يضعه على كتفه قائلاً:
الله ده زي شال الشيخ حاتم الله يرحمه ويطلق ضحكة عالية تشق عنان السماء.
منقول